فى مسلسل جزيرة غمام .. رسالة دينية فلسفية إنسانية راقية، تتسلل إليك برفق وعذوبة متناهية .. فحواها بمنتهى البساطة أن ربك رب قلوب وأنه المحبة ذاتها ، وأن الرحمة قيمة فى حد ذاتها والتسامح بين البشر يفتح لهم باب الجنة .. وأنه يضع سره فى أضعف خلقه، وأن المعركة بين الخير والشر قائمة ليوم الدين وأن الخوف لا يقودك إلى الله بل الحب، لأنك أذا ما أحببته فإنك لاتعصيه، وتعمل كل شيء لارضاء حبيبك طوعا واختيارا وليس إجبارا وقهرا ورعبا وإرهابا .. وأن رحمته وسعت كل شيء، وأن بابه مفتوح لكل عاص مهما كانت خطاياه، وأنه يعذر ويرحم ويسامح.
فقط.. دق على بابه، فإنه ينتظرك بلهفة وشوق وحب ومن يحب ربه يدخله فى رحمته، فقط .. قم وناده واسع إليه واستغفره , وهو يلبى بحب لأعز مخلوقاته، الانسان الذي نفخ فيه من روحه فصار بعضا منه، وياله من كرم وحب، فهل يمكن بعد كل ما سبق أن نغضب رب الكون؟
تلك كانت فحوى رسالة مسلسل جزيرة غمام، التى ضمت فى منافسة فنية راقية بين نجوم تقاسموا أدوار المسلسل في بطولة جماعية بأدائهم ، فوصل لنا بتلك الروعة.. رياض الخولي ، مى عز الدين ، محمد لطفى ، فتحى عبد الوهاب والمفاجأة أحمد أمين وغيرهم .. أبطال فى أدوار صغيرة لا يقلون إبداعا وموهبة وصدقا فى الاداء عن الابطال المشهورين.
فى المسلسل يبدو الصراع الازلى بين الخير والشر، بين ضعف الإنسان فى حبه للسلطة والهيمنة, وبين من يمشى بين البشر ناشرا الحب والعذوبة.. معركة بين التقليديين فى نشر التعليم والشرع فى آن واحد بنفس طريقتهم فى القهر والإجبار والسيطرة , وبين من ينشر الحب و التسامح والتكافل والإيثار بينهم.
كانت هناك فى المسلسل مواجهة بين من هو أجدر بتولى منصب شيخ الجامع الذى يمشى بين الناس بتواضع وحب، ينشر بينهم فضيلة التسامح والرحمة والأخوة وبين من يرى أن فرض شرع الله يأتى في المقام الأول بالخوف والإجبار والعنف كعقوبة تضمن طاعة شرع الله.
عظمة المسلسل كله تكمن فى تلك المواجهة، فى نظري بين عرفان الإنسان البسيط، الذي يأتى بمعجزات - لايعرف من أين تأتيه - وبين الشيخ التقليدى والذي يتصارع فى نفسه حبه لدينه ولشرع الله، ورغبته الجامحة للسلطة والمال .. مال الجامع!
فى المناظرة حاولوا أن يظهروا ضعف معرفته بتفاصيل الشريعة وهو يجيبهم ببساطة أنه ليس شيخا، إنما يرى أن الحب بين الناس يحل كل شيء وأن حب البشر لرب العالمين يجعلهم يطيعونه محبة وتقديرا وتقديسا. وسأل الشيخ : ألا تضرب ابنك حتى يصلى وحتى لايكذب؟ سيفعله أمامك خوفا وعندما تدير ظهرك سيفعل عكس ذلك ، أنا أريده أن يفعل ذلك حبا لك ولله، هكذا بمنتهى البساطة، ثم قال إنه يحاول أن يساعد الناس بأن يتراحموا ويتعاطفوا ويساعدوا بعضهم، وسأل صديقه الذى أوصى له الشيخ السابق بمنزله وكان عرفان يعيش فيه معه: طردتنى من المنزل ولم تسال نفسك أين ساعيش وأنا زميلك وعشرة العمر وعندك بدلا من المنزل اثنين , أدينك يؤيدك فى ذلك؟ أين التراحم المطلوب بين المؤمنين وأين القدوة المطلوبة من رجل الدين؟
في لقطة أخرى وإبليس ينشر شره فى الجزيرة ويوقع ويفرق بين الناس وعندما سأله أحد تابعيه: هل سوف تقتل الشيخ عرفان الذي يمثل الخير؟ أجابه: أنا لا أفعل شيئا بيدى أبدا، أنا أوسوس لإنسان وهو يقوم بكل الشر نيابة عني!
إذن ، لنحذر الوسواس الخناس ، الذى يوسوس فى صدور الناس، من الجنة والناس.
أما أجمل ما فى المسلسل ، فهي علاقة الشيخ عرفان بالأطفال ، يعطينا نموذجا راقيا فى تربية الأطفال وملئهم بالثقة في أنهم أغلى شيء فى الوجود.. كان يقول لهم بأنهم أجمل شيء وأغنى شيء .. وكان يجتمع بهم على البحر ويسألهم: ما أكثر شيء تحبونه؟ فيذكر كل طفل ما يحبه وعندما قال طفل ببراءة أن أجمل شيء هو زميلته الطفلة التى يحبها، فأحرجت وغضبت وأرادت أن تتركهم.. فسألها لماذا؟ قالت لأنى بنت وهو ولد، فعيب أن يقول عنى جميلة، فأجابها: ليه؟ هو الجمال حاجة وحشة .. هو الحب حاجة وحشة؟ الناس كلها لازم تشوف كل الناس جميلة وتحبهم. عبارة بسيطة لخصت قيمة إنسانية وأخلاقية كبيرة.
فى نهاية المسلسل حذرهم الشيخ بأن هناك عاصفة مميتة سموها الزوبع سوف تقضى على الجزيرة وأهلها إلا من كان قلبه سليما .. لاغنى و لا ذو سلطة ولا من كان يحفظ كتاب الله .. فقط من كان قلبه سليما .. الله ما أروع الرسالة، لأن الله لاينظر إلى صوركم .. إنما إلى قلوبكم ، والأعمال بالنيات ولكل امريء مانوى!
وفى لقطة أخرى تحضرنى وتدل على عظمة قيمة التسامح، عندما طلب الشيخ عرفان من الجدة التى فقدت حفيدتها غيلة أن تسامح من تركها تقتل ولم يساعدها، فرفضت بعناد، فقال لها إذا سامحته ستدخلين الجنة، لأنه تبعا لعرف الجزيرة إذا لم تفعلى سيقتل .. وأمسك بيديها وطلب السماح للشاب وهو واقف أمامها ممسكا بكفنه.. فقالت فجأة: سامحته ، وابتسمت وماتت العجوز مبتسمة، أتصور أنها رأت مكانها من الجنة، كل ذلك بسبب الشيخ عرفان الذي وضع الحب بدل الكراهية والتسامح بدل الانتقام.
ما أحوجنا لنشر تلك القيم فى وقت تسود فيه مظاهر التدين الظاهرية، والمجتمع أبعد ما يكون عن قيم الدين الحقيقية!
تحية لكل من اشترك فى ذلك المسلسل وأولهم المؤلف الاستثنائى عبدالرحيم كمال ، الذى أبدع لنا تلك الملحمة الأدبية، فالكلمة هنا هى البطل الحقيقي، وطبعا المخرج حسين المنباوي الذى قاد تلك المجموعة الرائعة.
---------------------
بقلم: وفاء الشيشيني